بهذا اليوم تنقضي سبعة وخمسون يومًا على وفاتك يا أبي. لا أدري لماذا لم أهتم بذكرى الأربعين، لم أقتنع بها كيوم خاص للشعور بغيابك، فقد كان اليوم الأربعون على وفاتك شبيها بأي يوم مر علي وأنت لست في متناول الرؤيا أو السمع، فكلما كنت أشتاق لرؤيتك وأنا في بيتي أذهب إليك فأجدك وأراك، وكلما كنت أحن لصوتك وأنا في رام الله أهاتفك فتجيبني وأشبع أذنيّ بصوتك، لم أكن في تلك اللحظات- سواء لحظات الرؤيا أو المهاتفة- أشعر بالمعنى الحقيقي للمشاهدة او السمع، لكن بعد وفاتك اتضح لي المعنى تماما، فما أقساك أيها الغياب! وما أقوى جبروتك عندما تكون أبديًّا!
هكذا مر اليوم الأربعون على وفاتك، وكذلك كان اليوم الثاني واليوم العاشر واليوم الثلاثون واليوم الخمسون، واليوم السادس والخمسون، كلها أيام فقد لا يتميّز أحدها عن الآخر.
لكن هذا اليوم، وبزمن أكثر تحديدا، هذا الصباح، أفقت على صوتك تدعوني أن أهتم بوالدتي، لقد كنتَ تعلو ظهر فرسنا البيضاء التي كانت لنا منذ حين، وتتجه نحو الأفق، كانت عيناك تحدقان فيّ وتغمز لي بإلهاء والدتي حتى تغيب عنها، لم تكن راغبا في إخبارها بسفرك إلى اللاعودة، ربما كنت تعرف أنها لا تقوى على المفاجأة بالغياب، وعندما اقتربتَ من ملامسة الأفق وصلني صوتك هامسا: "إياد، اعتنِ بأمك وأختك، ولا تنتظر أحدا من إخوتك حتى يعتني بهما"، ثم غصتَ في الأفق البعيد.
* * *
أبي لم يتزوج، فتلك الورقة التي يكتبها الشيخ لا علاقة لها بالمعنى الحقيقي للزواج بالنسبة لأبي، لأن الزواج هو تكامل إنسانين بحيث يكون كل منهما نصف الآخر، لكن أبي لم يكن النصف الآخر لأمي، ولم تكن أمي أيضًا نصفَه الآخر، وقد لا يصدقني أحد إذا ما قلت إن أمي كانت تحمِّم أبي وهو في العاشرة من عمره، إذ كانت هي في العشرين من عمرها، كانت تغسل جسمه من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، كان قد ترك مدرسته ليعمل راعيا عند الجيران الذين تزيد أغنامهم على مئة رأس، لكنه كان طفلا أمام أمي وهي تحممه، وعندما وصل سن البلوغ كان هو وأمي محرّمين على بعضهما.
نعم، أبي لم يخترْ له زوجة، فقد تدحرجت باتجاهه جلاميد صخور الحياة وهو متقوقع في قعر وادي الواجب الأسري، وما وجد نفسه إلا في أحضان أرملة أخيه وهو لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، لم يكن أمامه من خيار سوى الزواج من أمي ليرعى ثلاثة أطفال أنجبتهم من عمي قبل أن يسافر حيًّا إلى اللاعودة، حيث خرج عمي من البيت ولم يعد حتى اليوم، وبعد أربع سنوات على غيابه تخلى أبي عن حبيبته ليتزوج من أمي كي يحافظ على أسرة أخيه، لم يكن حينها مهتمًّا ببناء أسرة بقدر ما كان مهتما برعاية أسرة، فأسرته صارت جاهزة مكونة منه ومن أربعة أنفار منذ الليلة الأولى لزواجه. تلك الليلة كان أبي يُشيَّع إلى مثواه الأول، فكيف سينام مع من كانت زوجةً لأخيه؟ هذا عوضًا عن انه ليس هناك أي تقارب عاطفي أو ثقافي أو مهني أو من أي نوع بينه وبينها، فزواجه منها لا يعدو كونه رعاية لأبناء أخيه.
سارت الأيام تلو الأيام وقرّبت العِشْرة النفوس، لكنها لم تقرب العقول، ورزقه الله إيانا- نحن الأبناء الأربعة وأختنا- بالتتابع على مدى ثماني سنوات، وبدل أن يعيل أربعة أنفار صار يعيل تسعة.
لا أدري إن كان أبي ثرثارا قبل أن يتزوج أمي، أما بعد زواجه منها فقد كان يتمترس خلف الصمت، لم يكن ينسجم معها في الحديث، فأمي بسيطة جدا لا تقرأ ولا تكتب ولا تفقه في الحياة غير رعاية أبنائها جسديا وصحيا، هذه هي كل مؤهلاتها، ربة بيت، أما هو فكان حالما جدا، أفكاره دوما تحلق في فضاءات متحررة من كل شيء، غير أن الواقع كان له بالمرصاد، فاختار الصمت، حتى مع أمي ومعنا، إن تحدّثت معه رد باقتضاب، وإن لم تحدّثه يظل صامتا ولا يبادر بفتح أي موضوع.
* * *
أما مع نفسه، فكان ثائرا، كان يعدها بالقريب وسرعان ما يحيله مستحيلا، كان يرسم أحلامه الثائرة على ورقه الأبيض أثناء خلوته المعهودة كل يوم جمعة في بيتنا القديم ويخبئها هناك دون أن يعلم مخبأها أحد، هي فقط ثلاث وريقات وجدها ابن عمي هناك يبدو انه لم يتوقع عدم العودة إليها ليخبئها، فظلت على طاولته الصغيرة وسط البيت القديم تنتظر عودته المستحيلة.
كانت الوريقات تحتضن مختصر حكايته، إذ رسم فيها بخطه الطفولي الكبير:
"وعدتُ نفسي
في الليل منّيتها لو أمتّعها برؤية القمر مضيء
فلما أقبل الليل لم أجد ما يحملني على ترك الفراش
وفي النهار
منّيتها لو أمتعها برؤية الشمس مضيئة
فلما أقبل الصباح
لم أجد ما يحملني على ترك الغرفة
إنّ قدر الإنسان أقوى من الإرادة أحيانا
أُغلقت السبل وتطابق العدم مع اللاشيء
فكيف للإنسان أن يخرج من المأزق
كي أمضي قدمًا أحتاج إلى الدعم المادي والمعنوي. وهذا غير متوفر حتى في كل من هو قريب أو غريب
أما القريب
فيسخر منك لأن أفكارك غريبة
وأما الغريب
فلا يعرفك وقد يتهمك بالجنون
وما أنت إلا غريبا تقف باكيا على على أطلالٍ استحال ترميمها
من يدري
قد يأتي من بعدك جيل ليكمل هذا المشوار بعد أن يعرف أنك على صواب
ولست مفكر مجنون
خُلق الإنسان للعطاء. لماذا نصدّه عن عطائه
أما أنا فخلقت في برج الدلو
برج مائي صبور جدا يتحمل كل شيء ويعطي كل شيء ولا يأخذ شيء
يسخن عند تعرضه للحرارة ثم يبرد فجأة
يغرفون منه حاجاتهم يسقون ويستقون
يغسلون ويغتسلون. ولا يشكرون
ما أغرب هذا
لماذا خُلقت في هذا البرج
لماذا لم يفكر الزوجين الذين أنتجاني في لحظة جماعهم أن يؤخرا إنتاجي إلى أن آتي في برج السرطان مثلا كي آكل كل شيء ولا أبقي شيء
أو في برج العذراء مثلا
لأكون محبوبا مرغوبا عند الجميع واملك الجميع
أو في برج الميزان مثلا
كي أكون راجحا في طبعي. أخدم الناس وأنصفهم وأنصف نفسي
أو في برج الأسد
لتهابني الناس وأكون متسلطا عليهم
لماذا اشتهوا الجماع في ذاك الوقت بالذات حتى آتي في هذا البرج
حقيقي أنهم لم يفكروا أنني سوف أخلق
لقد فكروا فقط في شهوتهم في تلك اللحظة التي كلفتني كل هذا العناء
ذلك أنني خُلقت في برج الدلو
أعرف
أن الحياة فيها الخير والشر. وفيها القوي والضعيف
لكني لم أستطع أن أستوعب لماذا لا احد يفهم
أو يحاول أن يفهم"
هذا ما رسمه أبي في وريقاته الثلاث التي تركها لنا سهوًا من بعده، هذا ما رسمه بخط يده دون زيادة أو نقص أو تحريف أو تصحيف، هذا ما رسمه سطورًا تحت بعضها بالشكل نفسه دون علامات ترقيم غير النقطة، وبالأخطاء النحوية والإملائية نفسها، حتى بتكرار حرف الجر "على" في السطر السابع عشر، ألم أقل إنه ترك مدرسته صغيرا ليعمل راعيا لدى الجيران؟ فكيف له أن يتقن اللغة بنحوها وإملائها؟
* * *
سمعتُ همسك ولبيت أمرك هذا الصباح يا أبي، سأعتني بأمي وأختي، لكنك تركتني مع سؤالٍ تولّد لديّ بعد إفاقتي لم تجبني عليه، لماذا لم توصني بأمي وأختي إلا بعد سبعة وخمسين يوما من الغياب؟
انتهيت من سؤالي وإذا بطيفك عائدٌ إليّ يقول: "احسِبْها تجد الإجابة، فأنت وحدك من دون إخوتك من يحفظ تاريخ ميلادي، والآن لديك تاريخ وفاتي، وما أمهرك في ربط العلاقات!".
ما هي العلاقة بين تاريخ ميلاد أبي وتاريخ وفاته وهذا اليوم؟ كيف أربط بين 1/2/1953 و1/5/2010 و26/6/2010؟
لم تمضِ سوى دقائق حتى اتضحت العلاقة، ولم أجهد ذهني كثيرا، لقد صدقتَ يا أبي، هناك علاقة، فوفاتك كانت يوم السبت واليوم هو السبت، وفاتك كانت عن سبعة وخمسين عاما، واليوم هو السابع والخمسون لوفاتك، أتكون قد قصدت مساواة سنوات عمرك بأيام رحيلك؟ نعم، هذه هي العلاقة يا إياد، فكأني بأبي يقول لي إن حياة الموت أطول جدا مما تتوقع، فاليوم في ظلام القبر يعدل سنة في ضوء الدنيا، لأن سرعة الظلام أكبر من سرعة الضوء، وسبعة وخمسون يوما في الظلام تعدل سبعة وخمسين عاما في الضوء. هذه هي العلاقة إذًا.
لقد غدرَنا الأول من أيار، غدرنا عيد العمال، فأبي الذي عاش عاملا غدَرَه عيدُه واغتاله، يومها كان السبت، والسبت لدى معظم عمال فلسطين عطلة، نام أبي في قيلولته بعد الظهر وأغلق عليه الباب حتى يحافظ على هدوء غرفته من ضوضاء أبناء إخوتي في ساحة البيت، غفا على أمل أن يصحو بعد العصر يعيش لحظات سعادة أسبوعية مع أبنائه وزوجته وأحفاده عندما يجتمعون في ساعات ما بعد العصر في ساحة البيت.
أخذت الشمس دربها نحو المغيب، تجمع الأهل في ساحة البيت، سأل أخي الأكبر عن أبي، فقالت أمي إنه منذ ما بعد الظهر وهو نائم، دخل أخي البيت وفتح الغرفة وحاول إيقاظه بصوته: أبي، أبي. لم يجبه. اقترب منه يوقظه بيده، فلا حركة. نادى على أخي الأصغر وأخي الأصغر ناداني، دخلتُ الغرفة وتلمستُ يده فإذا هي باردة وبها صلابة، أدركت أنه ميت.
صلابة جسده تظهر انه مات منذ لحظة نومه بعد الظهر، نعم هكذا مات أبي بصمت، حتى إن عينيه بقيتا مغمضتين كما لو أنه نائم، عاش بصمت ومات بصمت، لم يكن يشعر بشيء ينذر بالموت، لم يزر طبيبا في حياته قط، لم يتعاطَ أي دواء، لم أره يوما في حياتي مريضا، عاش قويًّا ومات صلبا.
لا وقت للدفن هذا المساء، أخبرْنا الأقارب، وما هي إلا ربع ساعة حتى كان أمام البيت وفي محيط بيوتنا أكثر من مئتي رجل وشاب وعشرات النساء، والناس بين مصدق ومكذب، كثيرون قالوا: كيف له أن يموت وقد مرّ عنا ظهرا وطرح السلام وليس عليه أي علامات إعياء؟ نعم كثيرون منهم تساءلوا، لكن هذه هي إرادة الله.
اتصلتُ بسيارة الموتى لننقله إلى المستشفى حتى يقضي الليلة في الثلاجة في انتظار الصباح، وما إن جاءت السيارة حتى كنا قد قسمنا العمل بيننا نحن الإخوة الأربعة، أخي الأكبر يذهب مع أبي في سيارة الموتى، وأنا وأخي الذي يصغرني نبقى مع الناس المتجمهرين عندنا، وأخي الأصغر يذهب لإحضار الكراسي ولوازم بيت العزاء.
أوصينا أنفسنا بأن لا نبكي، ممنوع أن نبكي مهما كان الموقف، رأينا كثيرا من الأقارب والأصدقاء يبكون، لكن نحن لن نبكي، كان المؤذن بين الفينة والأخرى يفتح مكبر الصوت في المسجد ويعلن الوفاة قائلا: "انتقل إلى رحمته تعالى المرحوم محمود سالم جبر الرجوب "أبو جهاد" وسيشيع جثمانه الطاهر الساعة الحادية عشرة صباحا"، كنت كلما أسمع كلمة المرحوم تسبق اسم أبي في سماعة المسجد أكاد أخرّ باكيا، فلم أكن أتوقع أنها ستلتصق باسمه بهذه السرعة من الحياة، لكنني أعود وأتماسك مع ذاتي وأحبس دموعي.
وليزدادَ وجع الفراق عليّ ألمًا بعد عودتنا من المقبرة اقترب مني عمي يونس الذي وصل لتوه بعدما تسلل إلى قريتنا بعيدا عن عيون المحتلين دون أن يتمكن من وداع أبي، أعطاني مرثاة كتبها وأبى مسجى في ثلاجة الموتى ينتظر رحلته الأبدية إلى عالم ظل مجهولا علينا وسيظل، قال لي عمي وهو يناولني المرثاة: هذه يا عم بعض الكلمات التي وجدت أباك يستحقها فاحتفظ بها.
كان الفضول يدفعني لقراءة ما هو مكتوب، فتحينت لحظة فراغٍ في بيت العزاء لأفتح المرثاة، وما قرأت أول عبارة منها في السطر الأول حتى كدت أبكي، فطويتها وقلت في نفسي: سأقرأها فيما بعد وحيدا، لكن الفضول يدفعني للقراءة، فأعاود المحاولة كلما سنحت فرصة، أقرأ العبارة الأولى فأكاد أبكي، ثم أطوي المرثاة وأتحين فرصة أخرى لا أبكي فيها، لكن دون جدوى. فظلت المرثاة دون قراءة طيلة أيام العزاء.
وهكذا أوفينا نحن الإخوة الأربعة بوصيتنا لبعضنا طيلة الوقت بعدم البكاء، ليلة الوفاة وفي الصباح وأثناء تغسيله والصلاة عليه ولحظة الدفن، ثم على مدى الأيام الثلاثة التالية لتقبل العزاء، لا بكاء من أي منا نحن الأبناء، ولا حتى دمعة مرئية.
انتهى العزاء، وعاد الناس كلٌّ إلى جوّه، وعدتُ أنا لبيتي، كان الوقت ظهرا يوم الأربعاء، كانت زوجتي بجانبي، فتحت المرثاة، قرأت العبارة الأولى فدمعت عيناي، لكنني لن أبكي أمام زوجتي، طويت المرثاة ومسحت دمعاتي، فشعرت زوجتي بألمي وأمسكت بيدي وقبضت عليها، فشعرت بأنني مختنق بالبكاء لكن وجودها يمنعني، فاختارت الخروج من البيت والذهاب لتمضية بعض الوقت عند أختها في البيت المجاور، وحسنا فعلت زوجتي، فأغلقتُ وراءها الباب وجميع نوافذ البيت حتى لا يسمع بكائي أحد، فكلي شوق للبكاء على أبي، فتحت المرثاة ورحت أسافر باكيا مع الحروف الدامعة.
لقد كتب عمي في مرثاة أبي يقول:
"سكن القلب الذي كان يحمل عنا الهموم، وارتحنا خلفه نجمع خيوط الحكاية.
كان هنا قبل حين، تَقَلّب الضوءُ فوق جفن عينيه الضاحكتين واستراحت على كفه الحمائم، ومضت في دربها المعهود.
قبلته الشمس على خده الأيسر قبلة واستحالت إلى وردة بيضاء على وسادته الأخيرة، لا أحد سواه يعرف كيف سافر وحيدا في جزء من اللحظة، لم تلاحظ النسمةُ السريةُ على شباكه الغربي انسيابَ الروح الطاهرة بين خيوط الفضاء، ولم يعرف الجالسون حوله لماذا تقاطرت عليه الأقمار بهذا الاندفاع الكبير.
توطّن النور في ثنايا الروح العالية واستكانت في ظله النسائم، هكذا هم الأطهار الطيبون يسافرون منفردين بأحزانهم، وهكذا نودعك أيها الحبيب أبا جهاد بهذا الكبرياء.
أنت الأخُ الذي لن يموت
لأَنتَ البريقُ بوجهِ الشـروقِ
وأنتَ الحياةُ بوجهِ الفنـاءْ
وأنتَ الحبيبُ وحبُّ الفِـداءِ
إذا خَرَّ نَجمٌ بقلب الفضاءْ
وأنتَ الظهيرُ بوجهِ الخُطوبِ
وأنتَ النفيرُ بيومِ العَطـاءْ
سأبكي بُكاءَ الرّجالِ عليكَ
وأبكي دُروبًا طَواها الرّثاءْ
مَشَينا عليها قُبَيْلَ العطاس
فمالت عَلَينا غُيومُ الشّقاءْ
خَلَعْتَ القَميصَ المُرَثَّى عليَّ
وقُلْتَ: أُخيَّ حَمَتْكَ الدّماءْ
قَهَرْتَ بِدَمْعِكَ بُؤْسَ الظُّروفِ
وحَنَّتْ لِدَمْعِكَ عينُ السّماءْ
فَعِشْنا سَويًّا على الأرضِ صَمْتًا
وُجوهٌ تَشِعُّ وَجَوْفٌ ضِياءْ
سأبكي عَليكَ أُخَيّ الحبيبَ
ولا ضَيْرَ أنّي وَحيدُ الرّجاءْ
فلا قُربَ يُدني حُضوري إلَيْكَ
ولا بُعْدَ يُشفي بِقَلْبي البُكاءْ
وَحيدٌ أَعيشُ بأرضِ الهَشيرِ
كأسمالِ ثَوْبٍ بِوَجْهِ العَراءْ
سأبكي وَأُزْجي إلَيـكَ السـلامَ
قُبَيْلَ الصّباحِ وبَعْدَ المَساءْ
وَأَرسمُ في الروحِ وَجهَكَ شَمْسًا
وبَينَ الضُّلوعِ عَميقُ الوَفاءْ
سَلامٌ عَليـكَ قُبَيْـلَ الرَّحيـلِ
سَلامٌ عَليكَ بُعَيدَ اللِّقاءْ
وستبقى أخي الذي أحبه في القلب والذاكرة حتى تبرد النجوم
أخوك يونس"
* * *
وهكذا طويتُ مرثاة أبي وأكملت بكائي الذي تحيّنت له فرصة آمنة عن عيون إخوتي بعد أربعة أيام من الوفاة، فقد كان لزامًا علينا- نحن الإخوة- أن نظهر أمام بعضنا صابرين على مصابنا لنظهر أمام المعزين صابرين وقادرين على تحمل الشدائد، إذ كانت دمعةٌ واحدة من عين أيٍّ منا أمام الثلاثة الآخرين كفيلةً بانهيار أربعتنا باكين أمام المعزين. لقد كنا أربعتنا أثناء العزاء الأكثر نفاقا على مستوى العالم، فنستقبل المعزين من أقارب وأصحاب وجيران ومعارف بعيوننا الصافية وشفاهنا الباسمة، ونخفي في صدورنا وجعًا وألمًا يكادان يخنقاننا، فنجحنا في اختبار الصبر، وكان ذلك عونا لنا بعد أيام على تقبل وفاة جدتي أم أبي بكل هدوء، إذ آلمها موت ابنها، فأدركته بعد وفاته بسبعة أيام، وشيعناها ظهر السبت لتُسجى بجواره في المقبرة وسط القرية، وقد أوصتها أمي وهي تودعها الوداع الأخير أن تبلغ أبي السلام.
رحمك الله يا أبي
رحمك الله يا جدتي